الخميس، 12 يونيو 2008

أبناءنا الطلاب .. ماذا تريدون؟

أبناءنا الطلاب .. ماذا تريدون؟
في بداية تدريسي بالجامعة - منذ فترة ليست بالقليلة- أحسست بالحماس لفكرة أن أكون مؤثراً في الآخرين ، وكنت أحاول أن أثبت لنفسي - قبل أن أثبت لغيري- أنني قادر على التغيير، وأنني أحمل فكراً ، وأن هذا الفكر جدير بأن يرى النور من خلال هذه العقول الواعدة. نعم ما علي إلا أن أشعل حماسهم .. أروي بذور فكرهم ، ثم أنظر وانتظر.
وتخيرت المادة العلمية بعناية ، وأخذت أعد العدة لتقديمها في أبهى صورها لعلها تستهويهم.. تستثير فكرهم.. تثير حماسهم ، نعم لقد أصبحت مسئولاً عن هذه العقول وعلي أن أبذل كل ما في وسعي.
ومرت الأيام دون تقدم يذكر ، لكن لا يزال الوقت في صالحي ..أنا لن أغير الكون في يوم وليلة.. وأخذت استحثهم من حين إلى آخر كي يسألوا.. يناقشوا.. يحاورا.
وأثناء حماسي واندماجي في الشرح والتحليل في إحدى المحاضرات، رفع طالب يده يريد أن يسأل.
ها قد فعلتها ، أصبت الهدف .. هناك من أعمل فكره فيما أقول:
- نعم تفضل
- هو الامتحان كام سؤال يا دكتور؟
- امتحان إيه يابني؟ احنا فين والامتحان فين؟
وثار هرج ومرج وسمعت من بين الأصوات من يقول :
- إيه ده؟.. ده فاضل أقل من شهر على الامتحان ..
- احنا خلصنا كل المواد تقريباً ومش جايين بعد كده.
- دي مشكلتكم.. أنا شخصياً جاي. الدراسة مستمرة وأنا مستمر حتى نهاية الدراسة .
- طب عاوزين نعرف الامتحان علشان اللي مش حاييجي بعد كده.
وحاولت أن أتمالك نفسي.
- اللي عاوز يعرف الامتحان ييجي يوم الامتحان الساعة 9 صباحاً وهو يعرف.
وصار هرج ومرج مرة أخرى
- لا احنا يعني بنسأل الامتحان كام سؤال ، وفيه اختياري ولا كله إجباري؟
- الله أعلم.
وانبرت طالبة نجيبة تسأل:
- طب بلاش الامتحان.. لو سمحت يا أستاذ المقرر طويل جدا واحنا عندنا مواد كتيرة ممكن بس تحذف لنا فصل؟ وحضرتك اللي تقرر.
- فصل إيه يابنتي اللي أحذفه ؟ هو انا كنت بدرسه علشان احذفه؟
- ما احنا كل سنة بنعمل كدة ، وبعدين احنا ذاكرنا الكتاب كله ، هو المهم المذاكرة ولا الامتحان؟
- وبدأ الإلحاح يتواصل بصورة مستفزة:
- والنبي يا دكتور علشان خاطرنا فصل واحد بس؟
وبدأت أشعر أن الغضب بداخلي أقوي من قدرتي على كظمه ، وأنه سوف ينفجر لا محالة.
- بالله عليكم انتم طلبة جامعة ولا متسولين محترفين ؟
- وعلت الضحكات داخل المدرج.
- والله ح ندعيلك يا دكتور.. ربنا ما يغلبلك طلبة .. داحنا كلنا غلابة والله ، والمواد كتيرة.
- كل اللي يهمكم الامتحان؟
- هو فيه إيه تاني يادكتور؟
- مش ممكن الإنسان ينجح في الامتحان ويفشل في حياته ؟ يكون مجرد رقم ، موجود بلا وجود؟ يعني مالوش قيمة ؟
وانبرت طالبة تقول:
- يعني لو فشل في الامتحان ح يبقى له قيمة ؟
وتعالت الضحكات مرة أخرى ، ولم أشعر بالغضب هذه المرة بقدر ما شعرت بالأسى:
- ممكن أي واحد فيكم ينجح في الامتحان بمجهود بسيط ، لكن النجاح في الحياة له متطلبات أخرى ، ولا يمكن حد فيكم ينجح في حياته إلا إذا كان لديه متطلبات هذا النجاح.
- وانبرى طالب آخر يتفلسف :
- يا دكتور زي ماحضرتك عارف كل مرحلة لها هدف واحنا هدفنا في المرحلة دي النجاح في الامتحان، وبعد ما نتخرج وناخد الشهادة ندور على النجاح في الحياة.. إحنا فعلاً ممكن ننجح في الحياة بدون شهادة ، لكن لا يمكن نحصل على الشهادة بدون ما ننجح في الامتحان..انت عاوزأبويا يطردني من البيت؟
وتعالت الضحكات للمرة الثالثة ، ولاقت هذه الفلسفة ترحيباً كبيراً من معظم الطلاب ، وشعرت للحظات بالوحدة ، ولكن كان على أن أقاوم المشاعر السلبية ؛ فأنا أعلم أنني على حق؟
- طب خلينا عمليين .. أنا لا أهتم بالامتحان بقدر ما اهتم ببناء العقول . يعني الامتحان سوف يقيس قدرتكم على التفكير وليس على الحفظ . وبالعربي الفصيح علشان تنجحوا لازم تفكروا.
ورد طالب معلقاً:
- يعني لن ينجح أحد.
وتعالت الضحكات للمرة الرابعة
- بالله عليكم دي حاجة تضحك ولا تبكي؟ بدون تفكير لن يكون هناك مستقبل لا لكم ولا للبلد.
- يا دكتور ده احنا كان معانا ناس في الثانوية العامة كانت بتحفظ مسائل الرياضة ودخلت هندسة ، مش تربية زينا ، وبعدين احنا بقى لنا 13 سنة في التعليم بنحفظ ، ما بنفكرش ، إزاي عاوزنا نفكر ؟ ده احنا حتى ما بنعرفش إزاي نفكر.
- المشكلة مش انكم ما بتعرفوش تفكروا .. المشكلة انكم مش عاوزين تفكروا.
ومرة أخرى عاد الطالب الفيلسوف ليقول:
- لأن لو فكرنا المشاكل ح تزيد مش ح تقل .. أنا كل ما بفكر في التعب اللي تعبته في الثانوية العامة والمصاريف اللي أبويا صرفها ، والنتيجة.. كلية التربية ، أما المستقبل حدث ولا حرج مفيش شغل..مفيش.. فلوس.. مفيش شقة، ومفيش جواز، ومفيش أي حاجة.
- فعلاً معك حق بلاش تفكر .. لأن العالم كله بيحل مشاكله بالتفكير .. أما نحن فالتفكير يزيد من مشاكلنا .. بالعربي بيوجع دماغنا.. مشكلتنا بالفعل أننا لا نعرف كيف نفكر ، أو لماذا نفكر، ولا حتى فيم نفكر..أنتم بالفعل على حق لا داعي لأن تفكروا.
وساد صمت غريب ، ولم أدر لماذا كان لهذه الكلمات- دون غيرها- هذا الوقع في نفوسهم. وأنتابني شعور قوي وغريب في الوقت نفسه ، لا أدري إن كان شعوراً بالقوة ، أم بالضعف ، بالنصر أم بالهزيمة ؟ ترى هل أصبحت مؤثراً ، أم متأثراً.
اللحظات التالية كانت تحمل دليلاً قاطعاً على أن رياح التغيير بدأت تهب بالفعل، لكن لم يكن من السهل معرفة اتجاه هذه الرياح.
لقد بدأت التساؤلات تصب في اتجاه إرادة التفكير ، وبدأ الحوار يأخذ منحىً مختلفاً تماماً، وبدا الاهتمام واضحاً بالتساؤلات التي طرحتها : كيف نفكر ؟ وفيم نفكر ، ولماذا نفكر؟
وانتهى وقت المحاضرة ، قبل أن ينتهي الحوار ، ولكن على وعد باستكماله في المحاضرات التالية، وكان من الغريب بالنسبة لي أن تكون هذه الكلمات التلقائية البسيطة أكثر إقناعاً، وتأثيراً من كل المحاضرات التي كنت أعد لها الليالي الطوال، ولكن الأغرب من ذلك كان شعوري بأن هؤلاء الطلاب.. كانوا على حق.
في السنوات التالية على هذه الواقعة صارت أولى محاضراتي عن التفكير ومهارات الحياة.

د/ حسين عبد الرحمن


ليست هناك تعليقات: